معالي د. فارس البريزات، 2018.11.26
عندما بدأ شباب ذيبان، المعروفون اليوم بــ”الذيبانيون الجدد”، أوائل شهر كانون الثاني 2011 حراكهم، لم يخرجوا على القانون، بل تمتعوا بحس وطني مغلف بأخلاق النبلاء والفرسان التي توارثوها عن أجدادهم الذين دُفنوا بكرامة الكفاف تحت ترابها الطاهر، قبل أن يكتشف كولومبس العالم الجديد، قبل نحو خمسة قرون.
كان خروجهم للشارع على مقربة من المقر المهدوم للملك ميشع الذيبوني ملك مؤاب، مطالبين بمحاربة الفساد، شاهرين رغيف خبز في مظاهراتهم؛ تعبيراً عن قناعتهم بأن الفساد الإداري والسياسي هو السبب في سوء الحال الاقتصادي الذي يعانون منه ويتشاركون فيه مع بقية المناطق المهمشة اقتصاديا والمحرومة تنمويا.
ما يقوله النشطاء اليوم في ذيبان والكرك والطفيلة ومعان والمفرق وجرش والسلط يتطابق مع ما يقوله السياسيون العاملون والسابقون من أن سياسات الحكومة هي التي أوصلت البطالة الى 18.7 % والمديونية إلى نحو28 مليار دينار وتزداد.
تنامت ظاهرة الاتجار بالمخدرات وتعاطيها وطافت الأردن على سموم مطيع متظللة بغبار الفوسفات بينما يصارع بسطاء المواطنين أكوام النفايات في الطريق إلى مدارس ومراكز صحية يرضى فقط نحو نصف الأردنيين عن خدماتها. وأصبحت الفقيرات من الأردنيات غارمات خلف القضبان أو هائمات على وجوههن أو مختبئات يرتجفن رعباً وخشية من التنفيذ القضائي يبحثن عن قشة يتعلقن بها للنجاة من تلاطم أمواج البؤس المضاعف.
وبتخطيط بعض وزراء تربيتها وتعليمها العالي درس البسطاء تخصصات مشبعة فقط لضمان استمرار شركات الجامعات الخاصة الربحية التي أجبرت بعض الآباء على بيع ما تبقى من أراضيهم بالبخس الزهيد لتسديد أقساط شهادات بلا مهارات ومن لم يفعل هم في عداد الغارمين والغارمات.
لم يُحرك هؤلاء الشباب بأغلبيتهم عداء للعرش أو خصومة معه، ولا نقص انتماء لتراب الوطن. حركتهم حميّة شريف، وقهر حر موجوع، ومُحس بخيبة أمل يرتجي حالا أحسن لمن حوله قبل أن يرتجيه لنفسه بإيثار ونبل وفروسية يعرفها جيدا من يبر الأردن وأهله الأطياب، وينكرها حد الصفاقة المتعجرفون من طبقة العمالة الوافدة التي تستقر في الأردن عندما “تغتنم” الحكومة لتُغرِّم من تتسلط عليه وتغادرها عندما تصدح الحناجر مرة أخرى “طفح الكيل” مرة أخرى كذلك وأيضاً دون محاسبة ولا مساءلة.
وعلى الرغم من بعض التعبيرات الخارجة عن هذا السياق الحراكي بمناصريه ومعارضيه، بقي الحراكيون بأغلبيتهم واضحي الهدف والرؤية، رافعين شعار محاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وأضيفت شعارات أخرى حول الاصلاح السياسي.
الجوهر خلال هذه المسيرة هو لسان حال أغلبهم القائل اسمعوا لنا ودعونا نتحدث ونتحاور باحترام وكرامة كما فعل أسلافنا، لكي نصل بمركبنا جميعا إلى بر الأمان ونجعل الرياح تسير بما يشتهي شراع سفينتنا، كي لا نتركه عرضة لرياح غيرنا العاتية تأخذها بعاصفة لعتيق المرافئ ودسائسها ومؤامراتها.
الخطأ لا يُعالج بخطأ آخر، والمسيء يُسيء لنفسه أمام تسامح وترفُع المُساء له بغض النظر من يخاصم وأين ومع من وضد من يقف. إن ما يُعيد القطار لسكة الرُشد ويخفف الاحتقان، من حيث الأولوية، هو الإفراج عن المعتقلين.
الرهان معقود على رجاحة عقل ورزانة العديدين من صناع القرار والنشطاء المتزنين البارين بالأردن الذين يفكرون بهدوء وروّية وعقلانية وحنكة، ويضعون مصلحة الأردن وجميع الأردنيين، وليس مصالحهم هم ومصالح بعض الأردنيين الضيقة، نصب أعينهم بوصلة لوحدة الهدف ببناء برنامج تنموي اقتصادي وطني تكون ذيبان، كما عمان وغيرها، جزءا منه لا على هامشه.
يُعيد هذا البرنامج بناء هوية تنموية مركبة للمنطقة ترتكز على التكنولوجيا والسياحة والزراعة. يرتكز مسار التكنولوجيا على التوسع بتعليم تقنيات البرمجة واللغة الانجليزية في جميع مدارس المنطقة لانضاج مهارات رأس المال البشري اللازمة للانخراط في سوق العمل العالمي وليس فقط المحلي وتبدأ عملية موازية بنسخ تجربة مركز الابداع في الكرك وخبرة المهندس حسام الطراونة وبناء حاضنة أعمال في الجامعة الاميركية في مادبا تبلور أفكار أبناء المنطقة لخدمتها وتساعدهم على خطى النهضة.
وفي مسار التطوير الزراعي يمكن الاعتماد على تدوير موارد المنطقة فيها مثل؛ إنشاء قناتي الهيدان الشرقية والغربية بضخ المياه (بالطاقة الشمسية بوضع الواحها على سطح مياه السد لمنع التبخر) بأنابيب من سد الوالا على جانبي الوادي من الوالا ولغاية وادي الزرّاعة وصولا إلى قصيب والملاقي لري الأراضي التي هجرها أصحابها نتيجة ضعف البنية التحتية وشح المياه في الوادي .
وضخ جزء من مياه سدي الموجب والوالا لري سهول ذيبان الشرقية والغربية لتنشيط وتطوير مهارات أهل المنطقة الزراعية وتوجيهها نحو تصدير ما خف وزنه وارتفع ثمنه وقل استهلاكه للمياه بالشراكة مع رواد تكنولوجيا الزراعة والتسويق الزراعي. وبناء سد في منطقة الملاقي (التقاء سيلي الهيدان والموجب) لإحياء المنطقة زراعياً وسياحياً.
وفي مسار التطوير السياحي، دعم مبادرة رئيس بلدية ذيبان السيد عادل الجنادبة بتحويل توصيات مؤتمر السياحة الأول في ذيبان إلى مشاريع ضمن برنامج سياحي متكامل يشمل مسارات الحج المسيحي في مكاور وربطها بتل ذيبان، وأم الرصاص، وعراعر، وتطوير برامج السياحة البيئية والثقافية والزراعية لرفد اقتصاد المنطقة من خلال تنويع المنتجات السياحية المُكمّلة للبرامج السياحية الوطنية خصوصاً برامج المزارات الدينية مثل مقام رمز العدالة الاجتماعية ابو ذر الغفاري في السحيلة.
ويمكن للحكومة أن تحقق منجزات سريعة بتفعيل صناديق وزارة العمل المكتنزة بالأموال وتوجيهها لإنشاء مصنعين آخرين (فروع انتاجية) للألبسة بين لب وجبل بني حميدة وآخر في بلدة ذيبان على غرار مصنع الصافي في مليح الذي يُشغّل نحو 400 فتاة وشاب من أهل المنطقة.والاستعجال و تشجيع الشركات الصناعية لفتح فروع لمصانعها في المدينة الصناعية الجديدة في دليلة الحمايدة.
الكاتب هو معالي الدكتور فارس البريزات، رئيس مجلس الإدارة في مركز نماء للاستشارات الاستراتيجيّة.
تمّ نشر هذه المقالة في جريدة الغدّ بتاريخ 2018.11.26. الرجاء النقر هنا للاطلاع على المصدر الأصلي.